التمسك بالسنة لا يُنافي التقدم

Monday 7 October 2013


بسم الله الرحمن الرحيم

التمسك بالسنة لا يُنافي التقدم
 إنَّ مما ينبغي التفطن له وإدراكه جيداً أنّ الإسلام لا يمنع من التقدم في علوم وأحوال دنيوية بل إنّ الإسلام يُنعش ما كان صالحاً للتقدم في أمور الدنيا. قال أمير المؤمنين المشهور بابن شهاب ( العلم فيه نعشٌ للدين والدنيا) أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (817)وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله رقم(1018)وهو صحيح إلى ابن شهاب . وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة ( فقوام الدين والدنيا إنما هو بالعلم ) . وللعلامة الشنقيطي كلام نفيس في هذه المسألة في( أضواء البيان ج 3 / 435 ـ 438 ) قال : ( ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : ـ هديُه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين فما خيَّله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام ( من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام ـ باطل لا أساس له ، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أودين ) . ولكن ذلك التقدم في حدود الدين والتحلي بآدابه الكريمة وتعاليمه السماوية قال تعالى : )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... الآية ) الأنفال : الآية 60 وقال : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أن اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد وَاعْمَلُوا صَالِحاً ...الآية ) فقوله (أن اعمل سابغات وقدر في السرد ) يدل على الاستعداد لمكافحة العدو . وقوله ( واعملوا صالحاً ) يدل على أنَّ ذلك الاستعداد لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف . وداود من أنبياء ( سورة الأنعام) المذكورين في قوله تعالى [ ومن ذريته داود ] الآية ...... وقد قال مخاطباً نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكرهم ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ( . وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل بن عباس رضي الله عنهما : من أين أخذت السجدة في سورة (ص) ؟ ، فقال رضي الله عنه: أوَما تقرأ [ ومن ذريته داود ] ، [ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ] فسجدها داود ، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدل ذلك على أنّا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أُمر به داود . فعلينا أن نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا ، وانظر قوله تعالى : [ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ] فهو أمرٌ جازمٌ بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت . فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية ، وعدم الجمود على الحالات الأُول إذا طرأ تطورٌ جديدٌ ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين . ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى : [ وإذا كنت فيهم فأقمتَ لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم.......الآية ] . فصلاة الخوف المذكورة في هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو ، وبين القيام بما شرعه الله جل وعلا من دينه فأَمره تعالى في هذه الآية بإقامة الصلاة في وقت التحام الكفاح المسلح يدل على ذلك دلالة في غاية الوضوح وقد قال تعالى : [ يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ] فأَمره في هذه الآية الكريمة بذكر الله كثيراً عند التحام القتال يدل على ذلك أيضاً دلالةً واضحةً. فالكفار خيَّلوا لضعاف العقول أنَّ النسبة بين التقدم والتمسك بالدين ، والسمت الحسن والأخلاق الكريمة تَباين مقابلة كتباين النقيضين كالعدم والوجود والنفي والإثبات .......... فخيَّلوا لهم أن التقدم والتمسك بالدين متباينان تباين مقابلة بحيث يستحيل اجتماعهما فكان من نتائج ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين والتحقيق أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده وقطع النظر عن نصوص الكتاب والسنة إنَّما هي تباين المخالفة . وضابط المتباينين تباين المخالفة : أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تُباين حقيقة الآخر ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلاً في ذات واحدة كالبياض والبرودة فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعهما في ذات واحد كالثلج ، وكذلك الكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعداً متكلماً في وقت واحد وهكذا ، فالنسبة بين التمسك بالدين والتقدم بالنظر إلى حكم العقل من هذا القبيل فكما أنَّ الجرم الأبيض يجوز عقلاً أن يكون بارداً كالثلج والإنسان القاعد يجوز عقلاً أن يكون متكلماً فكذلك المتمسك بالدين يجوز عقلاً أن يكون متقدماً إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظة على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه مشتغلاً في جميع الميادين التقدمية كما لا يخفى وكما عرفه التاريخ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان . أما بالنظر إلى نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: [ ولينصرنَّ الله من ينصره ..الآية ] ، وقوله: [ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ] ، وقوله: [ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنَّهم لهم المنصورون وإنَّ جندنا لهم الغالبون ] ، وقوله: [ كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ] ، وقوله [ إنَّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ... الآية] ، وقوله : [ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشفِ صدور قوم مؤمنين ] ونحو ذلك من الآيات و ما في معناها من الأحاديث ) أ.هـ . وقال المؤرخ الفرنسي غوستاف في كتابه ( حضارة العرب ) : " إنَّ فلاسفة العرب والمسلمين هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين " نقلاً من كتاب أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية. ويقول تولستوي الأديب الروسي الكبير : " ... إنَّ هذا النبي من كبار الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمةً جليلةً ويكفيه فخراً أنَّه فتح لها طريق الرقيّ والتقدم وهذا عمل عظيم لا يفوز به إلا شخصٌ أُوتي قوةً وحكمةً وعلماً " المصدر الأول . قلت : ومما يدعو أمة الإسلام إلى استخدام الوسائل الدنيوية النافعة ما قصَّه الله علينا عن عبده الصالح ذي القرنين قال تعالى : ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً إنّا مكنا له في الأرض وأتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً قلنا يا ذا القرنين إمَّا أنْ تعذب وإمَّا أنْ تتخذ فيهم حسنا قال أمّا من ظلم فسوف نعذبه عذاباً نكراً وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبرا ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا يا ذا القرنين إنّ يأجوج و مأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكنّي فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً ..... ) قال السعدي رحمه الله في تفسيره ص 458 : ( أي أعطاه الله من الأسباب الموصلة لما وصل إليه ما به يستعين على قهر البلدان وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران ، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها أي : استعملها على وجهها فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكله ولا كل أحد قادر على السبب فإذا اجتمعت القدرة على السبب الحقيقي والعمل به حصل المقصود وإن عدما أو أحدهما لم يحصل وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها لم يخبرنا الله ولا رسوله بها ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم فلهذا لا يسعنا غير السكوت عنها وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها . ولكننا نعلم بالجملة أنَّها أسباب قوية كثيرة داخلية وخارجية بها صار له جندٌ عظيمٌ ذو عَدَدٍ وعُدَدٍ ونظام و به تمكن من قهر الأعداء ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها وأنحائها . وقلت : وهذه شهادة أحد علماء الاستشراق المنصفين يقول : "إنَّ الماضي الأوروبي في القرون الوسطى كان على أيدي قادة الإسلام " . وقال المؤرخ جورج سارتون : " المسلمون عباقرة الشرق في القرون الوسطى كان لهم مأثرة عظمى على الإنسانية يتمثل في أنَّهم تولَّوا كتابة أعظم المؤلفات والدراسات القيمة وأكثرها أصالة ًوعمقاً مستخدمين في ذلك لغتهم العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري في الفترة الواقعة بين القرن الثامن الميلادي حتى نهاية القرن الحادي عشر لدرجة أنَّه كان يتحتم على الشخص الذي كان يريد الإلمام بثقافة عصره وبأحدث ما يجري من علوم أن يتعلم اللغة العربية >" نقلاً من كتاب ( أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية ص 110 ـ111( . وقال البروفسور( أدوار بروي ) وهو يتحدث عن الفتوحات الإسلامية : " و انجلى غبار الفتح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع وعن حضارة ولا أسطع وعن مدنية ولا أروع عوَّل عليه الغرب في تطوره الصاعد ورقيّة البنّاء " المصدر السابق . بل لقد ألفت الكاتبة الألمانية ( زيغريد هوتكه ) كتاباً بعنوان " شمس العرب تسطع على الغرب " المصدر نفسه ص 210 . قلت : فهذه الأدلة الساطعة واضحة المعالم شامخة المباني تُثبت ما وصل إليه المسلمون من تقدم مع تمسكهم بدينهم . أ . هـ قال تعالى ) الذين إنْ مكّنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ( الحج . فحريّ بملوك الإسلام وزعماء الأمة الإسلامية وقادتها أنْ ينهضوا بالأمة نهضاً حقيقياً كما نهض من ذكرنا في هذا الفصل ومن كان على ما كانوا عليه من التمسك بالدين و الاهتمام بتقدم المسلمين في جميع مجالات الحياة ، وأمَّا ربط تقدمنا تبعاً لأعداء الله خصوصاً الغرب الكافر المنحل فلن يزيد الأمة الإسلامية إلا ذلاً وهذا استسلام لهم وتقديم الأمة ضحيةً بين أيديهم فبئس ما صنعوا وتباً لهم على ما فعلوا وويلٌ لهم مما اكتسبوا و لا حول و لا قوة إلا بالله .
Share this article :

1 comment:

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
Copyright © 2014. el-Haseem21 - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website Inspired by Sportapolis Shape5.com
Proudly powered by Blogger